الثلاثاء، 8 مارس 2016

آفاق المكان في ديوان " هواء العائلة" أيمن الدِّسوقي


آفاق المكان
في ديوان " هواء العائلة" 
للشَّاعر" شريف رزق "
أيمن الدِّسوقي
                                                                
إنَّ المتلقِّي لخطاب شريف رزق – المتكرِّس عبْرَ منجزاتٍ ذاتيَّةٍ مختزلةٍ– يجد استقباله ملفوفًا بجدليَّة الموازنات الشِّعريَّة العميقة بين تأصيل الموروثِ الثَّقافي بمختلفِ مستوياتِهِ وبين خلق الواقع المُغاير،من خلالِِ تقنياتٍ سرديَّةٍ دقيقةٍ وعميقةٍ، تتجاوزُ– من حيثُ طبيعتِها – حدودَ التَّراكيب المكشوفةِ لعلاقاتِ اللغةِ والمجازِ. 

فالخصوصيَّةُ الشَّديدةُ لهذا الخطابِ، تضعنا، دائمًا، أمام محاولاتِ الكشفِ لإحداثيَّاته الَّتي يتشكَّل منها البناءُ الدّلاليُّ بل تتفجَّرُ في لامحدوديَّة – ولو من سياقٍ مباشرٍ- تُرهقُ احتمالات التَّلقِّي في إمتاعٍ حميميٍّ يتفجَّرُ معه سيلٌ من الاختزالِ لتجاربَ حياتيَّةٍ، يعيشُها كلٌّ منَّا؛ لكنَّها مذهلةٌ مجازيًّا؛ لخصوصيَّتها، ولتحوُّل الوعي منها إلى الجمعيِّ، في محاولةٍ لخلقِ هذا العالمِ المُغايرِ؛ الذي يرنو إليه الشَّاعر، بعيدًا حتَّى عن دلالاتِ بنائِهِ الخاصِّ؛ فهو – إذن – يُؤسِّسُ مشروعًا، يبني فيه عالمًا يُوهمكَ باستغراقه فيه؛ ولكنَّه في حقيقةِ الشِّعر يقفُ دائمًا مُتأمِّلاً- من بعيدٍ- بناءَ إحداثيَّاته و ظواهره، ولكن ما يلفت الانتباه حقًّا – وقد يكونَ ذلكَ مدخلاًمُهمًّا في بناء سياق التَّلقِّي في شعريَّة النُّصوص – هو كيفيَّة وقوفهِ، وطبيعة ذلكَ الوقوف؛ حيثُ يُلفتُ الانتباهَ تحرُّره من القالبِ المحدودِ دائمًا، إلي فضاءاتٍ متجدِّدةٍ، مادامَالسِّياقُ قد تحرَّكَ في تردُّديَّةٍ بنَّاءة، وبمعنى أكثر مباشَرَةً: فإنَّ جزءًا مُهمًّا من التَّجاربِ الحياتيَّةِ المُختزلةِ لدى شاعرنا، هو جزءٌ استعاريٌّ من حيثُ التَّشكُّلِ.
أمَّا الصُّورةُ– في رأيي - فنجدُها تُوظَّفُ دائمًا لتجاوز حتميَّةِ إدراك الحقائق(1) إلى خاصيةِ الرَّبطِ بينَ عوالمَ مختلفةٍ ومُتعارضةٍ بالبنيةِ التَّكوينيَّةِ كما يرى "جون كوهين"(2)،ومنذُ بداياتِ الشَّاعر نراه واعيًا تمامًا لأهميَّةِ الصُّورةِ وقيمتها الدّلاليَّةِفي بنائِهِ الشِّعريِّ؛فنجدُ الصُّورةَ الحِسيَّةَ التي تحملُ صوتًا وحركةً وضوءًا في اشتباكٍمُجلجلٍ لتكوينِ ذلك العالم المُغاير. 
يقول في ديوانِهِ: "عزلة الأنقاض": 
" لِحَرِيقةٍ في الجَوِّ أَصْعَدُ
قاذِفًا في البَحْرِ أسْلافِي السُّكارَى
قاذِفًا حَشْدًا مِنَ الشُّعرَاءِ قدْ مَاتُوا صِغَارَا
عَارِيًّا مِنِّي وَأَصْنَعُ - في رِمَالِ الضَّوءِ - امْرَأةً وَدَارَا..."(3)
ثم يصلُ الشَّاعر في ديوانِهِ: "مجرَّة النِّهايات" إلى أفقٍ أكثر رحابةً من حيثُ الدّلالةِ؛ هو أفقُ المكانِ وتأثيراتِهِ البنائيَّة في تشكيلِ المجازِ، بلْ في حلولِ تلك الدّلالة المكانيَّةِ فيه، حتَّى يُفجِّرَها كعالمٍ موازٍ في نصوصِهِ. 
يقول في ديوانِهِ: "مجرَّة النِّهايات":
" وَهَاهِيَ الطُّرُقاتُ التي ظَلْتَ تَعْبُرُ
قَدْ تَشَظَّتْ 
كَحُزْمَةٍ مِنْ نَيَازِكَ
في ضُلوعِكَ..."(4)
وقد وصلتْ القيمةُ الدّلاليَّة للمكانِإلى أوجِ تفاعلِها مع المُتلقِّي- في رأيي – في خطابهِ المبدع الأخير: "هواء العائلة"؛ لتشكِّلَ لنا وعيًا مختلفًا بالتَّفاصيل الحياتيَّةِ الحميمَةِ، وتُنتج لنا واقعًا مُغايرًا نأمله، وفي السُّطور القادمةِ سأحاولُ الاقترابَ من هذه القيمةِ المُهمَّةِ– أعني القيمة المكانيَّة – في ديوان: "هواء العائلة"؛ الذي صدر حديثًا لشاعرنا، وتتجلَّى القيمةُ المكانيَّةُ في أكثر من مدلولٍكنصيَّةِ العناوينِ الفرعيَّةِ، وطبيعةِ اللغةِ التي يتجاوزُ بها الشَّاعرُ طبيعتِهِ الكتابيَّة لما ألفناه في أعماله السَّابقةِ؛نظرًا لعدمِ احتماليَّةِ التَّجربةِ– في رأيي –إلاَّ للغةٍ خاصَّةٍ، تحتملُها نصيَّة العناوين الفرعيَّة، والمُدهشُ للمُتلقِّي هنا أن يجدَ العنوانَ الفرعيَّ الذي يتشكَّلُ منه الخطابُ الشِّعريُّ كلُّه هو الأرقام الرُّومانيَّة القديمة ( I-IV-X)- مثلاً-، ممَّا يفجِّرُ فينا أسئلةً لا حصرَ لها، ويكونُ أوَّلُ الأسئلةِ: لماذا؟؛ فندخل بهذا السُّؤال وحده لعالمٍ من الاحتمالاتِ والتَّصوراتِ، إلاَّ أنَّها تصبُّ عندي في دلالةِ القيمةِ المكانيَّةِ لهذا الشَّكلِ العدديِّومدى إثرائِهِ للخِطابِ الشِّعريِّ، أو كما يرىتشيبوسوف (مُؤسِّسُ نظريةَ الاحتمالاتِ في المدرسةِ السُّوفيتيَّةِ):في البحثِ الجديدِ عن جوانبَ جديدةٍ في مواضيعَ معروفةٍ سابقًا. (5)
ويُشدِّدُ شريف رزق، هنا، على القيمةِ المكانيَّةِلرمز العددِ الرُّومانيِّ؛ حيث كتابة الرَّمز إلى يساررمزٍ آخريدلَّ على كبر القيمةِ، وإن كتب على يمينه يدلُّ على مجموعِ الرَّمزينِ. إذن لدينا مكانٌ يتضخَّمُ بآخرٍ، ومكانٌ تتَّسعُ دلالةُ قيمتِهِ المكانيَّة بآخرٍ، وبحسب التَّصنيفِ في المكتباتِ العالميَّةِ– كلية أربد الجامعيَّة مثلاً- فإنَّ الرَّقم الرُّوماني يُستخدمُ للدَّلالةِ على التَّقسيماتِ الجُغرافيَّةِ؛ ممَّا يعودُ بنا لخطابِ: "هواء العائلة "؛ لبيانِفكرةِ الارتباطِ بالقيمةِ المكانيَّةِ؛ فنرى تحت الرَّمز ( II):
"أينَ أنْتَ الآنَ يَا جَسَدِي؟
، أنتظِرُكَ على قارعَةِ الظَّلامِ، وَحْدِي
بلا مَأوى أوْ رَفيفٍ."(6)
بحثٌ عن المكانِ / المأوى، وانتظارٌ لفقدٍ حميميٍّ طالما يُؤرِّقُ شاعرَنا عبْرَ دلالاتِ النَّصِّ المُغايرِ، ثمَّ تتضخَّمُالدَّخائلُ المطويَّةُ، ومعاناته بين القُوى الخفيَّة التي تبني أفقًا لاينتظرُهُ المُتلقِّي، حين تكبُرُ القيمةُ المكانيَّة تحتَ الرَّمز ( III)، فنرى:
"جُثَّتِي تُلوِّحُ في العَرَاءِ
لِغَيمَةِ لا تَرَاهَا."(7)
استغراقٌفي دلالةِ العراءِ؛ بل انقطاع الأملِ، ولو في ظلٍّ رطيبٍ، ورغم ما يُردِّده صديقي – متلقٍ آخر- أنَّه أملٌ زائفٌ؛ حيث إنَّها جثَّته تلك التي تنتظرُ/ ولكن المتتبِّعَ لسيرةِ شريف الإبداعيَّةِ لَيصِلُ إلي حتميَّةِ تفجُّرِ الحياةِ منْ هذه المفردةِ تحديدًا:الجثة، أو قلْكمْ منْ الجثثِ المؤرّقةِ، والمُشكِّلةِ لدلالاتِ الانفعالِ السَّرديِّ– إنْ صحَّ التَّعبيرُ- ، وإذا كانتْ دلالةُ الرُّموزِ الرُّومانيَّةُ ترتبطُ هكذا بقيمةِ المكانِ، فإنَّ إعادتها من جديدٍ؛ لتشكِّلَ عناوينَ لسرديَّةٍمُوازيةٍ في مكانٍ آخرٍ من الدِّيوان،يجعلنا نقولُ ببساطةٍ شديدةٍ إنَّ الشَّاعرَ يُعيدُ ترتيبَ المكانِفي مُحاولةِ الإمساكِ بذاكرَةٍ تقتحمُ ذاكرةَ المُتلقِّي اقتحامًا؛فنرى تحتَ الرُّموزِالسَّابقةِنفسِها: 
( III ) ( III)
"هذا البيتُ المُحطَّمُ"أنينٌ يتصاعَدُ منْ جُدرانِ غرفتي
كانَ جسدِي ذاتَ يومٍ أسمعُهُ بوضوحٍ قبيلَ نومِي 
حدِّقْ مليًّا يا أبي، وتبيَّنْ هذا الأنينْ."(8) يتكاثفُ منْ حَوْلي 
في كلِّ ليلةٍ."(9)
إنَّ قراءة المكانِ فى الأدبِ، تجعلنا نُعاودُ تذكُّرَ بيتِ الطُّفولةِ(10)،وقراءته في ديوان: "هواء العائلة "تُفجِّرُ في المُتلقِّي و أمامَه عوالمَ كامنةٍ ومختزلةٍ فيذاكرتِهِ؛ فيُعيدُ عمليَّةَ البناءِ الخِطابيِّ، بمقدارِ عُمقِ هذا الاقتحامِ واتِّساعِهِ، ثمَّ يعود بنا الشَّاعرُ إلي مُحيطِهِ الذَّاتيِّ الذي يرفضُ أن يُشاركه آخرٌ فيه، حينما يصدرُ الذَّات في جملتِهِ– ومعَ نهايةِ المكانِ ( IV )، نجد هذا الاستفهام عن المكانِ، وإنْ كانَ قد حملَ معه دلالاتٍمن الغربةِوالتَّلاشي: 
(IV ) 
"معكَ حقٌّ تمامًا يا أبي:
أينَ شَرَيف.؟"(11)
وكمَا وظَّفَ الشَّاعرُ نصيَّةَ العناوينِ الفرعيَّةِ لخلقِ القيمةِ للمكانِ المُتخيَّلِ في ديوانِهِ، نجدُ تلك القيمةَ تتَّسعُ عبْرَ لغةٍ شعريَّةٍ خاصَّةٍ، تتعدَّى حقلَ الدَّلالاتِ الأوليَّةِ لبناءٍ لغويٍّ، من حيثُ الألفاظِ والتَّراكيبِ وعلاقاتِها بالسِّياقِ وتردُّداتِهِ، وإنَّما نجدُ اللغةَالتي تتفاعلُ؛ بل تتوغَّلُ إلى الباطنِ، في محاولةٍ خلاَّقةٍ لبناءِ شكلٍ مُتفرِّدٍ لهذا المكانِ. 
إنَّ حالةً من الوجدِ والحلولِ لا تحتاجُ– في رأيي – إلاَّ لغةً كهذِهِ؛ لغةٍ تعتمدُ على وصفِ العلاقاتِ الشَّكليَّةِ، إيقاعًا، وتوتُّرًا، وانسجامًا،وعوالمطوبغرافيا الصَّفحةِ، كأنَّك- كمُتلقٍ مُساهمٍ- تبني معه المكانَ المُتخيَّلَ، حسب ترتيبك الخاصّ لتلكَ العلاقاتِ الشَّكليَّةِ؛ فيكون المطروحُ أماكن لانهائيَّة، سوف يبدأمنها الشَّاعرُ رحلتَه إليكَ، في تجدُّدٍحميميٍّ لحالةِ الوجدِ المُستديمَة.
ونرى – مثلاً- تلكَ الدّلالة الصَّوتيَّة التي تحلُّ- مكانيًّا- بأشعارِهِ حينَ يقولُ:
"عُواءُ ذئبٍ وحيْدٍ في فلاةٍ
بأشعاري."( 12) 
تبدأ الدَّلالةُ بصوتِ العُواءِ الذي يُثيرُ في النَّفسِ وحْشةَ الانفرادِ، ورجفةَ التَّمزُّقِ، ثم يفجؤكَ الوصفُ (وحيد)، وما يحملُ من انحرافٍ في الدّلالةِ؛ فتشكيلُ الصَّحراء – التي استبدلها – تنتهي جميعًا – نزولاً– في أشعارِهِ؛ غير أنَّ ما يُفجِّرُلغةَ العِلاقاتِ المُشتبكةِ ذلكَ الاستخدامُ المُؤثِّرُ لحروفِ المدِّ في هذينِ السَّطرينِ؛ كأنَّ امتدادَ العواءِ امتدادٌ لاينقطعُ، وإذا وازنتَ بينَ الفراغِ المُتذيِّلِ وكتلةِ السَّطرينِ– فلا يوجدُ غيرهما في الصَّفحةِ– لتبيَّنتَ مدَى تحكُّمِ القصيدةِ / السَّطرينِ منْ دلالاتِ تشكيلِ الفراغِ بها، في محاولةٍ لبناءِ المكانِ من جديدٍ، إنَّ تصويرًا مبنيًّا على لغةٍ مغايرةٍ، يعلمُها شاعرُنا جيِّدًا، لكفيلٌ بأنْ يُعيدَنا مرَّاتٍ ومرَّاتٍ لقراءةٍ لا كفاية فيها من الدَّلالاتِ،ولاسيَّما إذا أخذنا في اعتبارِ تلكَ القراءةِ شموليَّةَ الأداءِ الفِعليِّ لتشكِّلَ البناء اللغويّ لدى الشَّاعر في خطابِهِ؛ أي استعمالاته الشَّاملة لمظاهرِالمُتكلِّم – المُتلقِّي من حيثُ الطَّرائق السَّمعيَّة البصريَّة(13)؛ التي تُعزِّزُ الدّلالةَ المقصودةَ، وقد تشكَّلتْ تلكَ الطَّرائقُ، وأثرَتْ الحِوارَ السِّيميائيَّ في مكانٍ؛ يُمثِّلُ ذروةَ البناءِ الخِطابيِّ، في مقطعٍ غايةِ في الاختلافِ الشِّعريِّ؛ حيثُ تتلاحَمُ العلاماتُ النَّصيَّةُ لبنيةِ السَّردِ منْ أجلِ هذا الحَدَثِ، عبْرَ بناءٍ حواريٍّ، يقولُ: 
- يا أمِّي ، إنَّهُ حيٌّ لم يمُتْ
، إنَّني أرَاه في كلِّ ليلةٍ في المقبرَةِ
، مُنكمِشًا بينَ المَوْتى، ولايكفُّ عن البكاءِ.
- المَيِّتُ لا يرجعُ يا بُنَّي.
- افتحُوا، وانظرُوه يا أمِّي، إنَّه يبكي وَحْدَهُ. 
- رَحِمَهُ اللهُ يابُني، كانتْ روحُهُ فيكَ. 
- إنَّه يُناديني يا أمِّي، ويبكِي، صدِّقيني.
- وهلْ ذهبَتْ إليْه يا شَرِيف؟ 
- إنِّني خائفٌ يا أمِّي، وأصحُو كلَّ يومٍ على بكائِهِ
، وندائِهِلي." (14)
البناءُ اللغويُّ هنا يُفجِّرُ طاقةً غير محدودةٍ من الألمِ ومستمرَّةٍ؛ بل دائمة التَّجدُّدِ في كم المضارع المُستمرِّ؛ بل استخدامه لاسم الفاعل الدَّال على الاستمراريَّةِ، أمَّا اللافتُ للرُّؤيةِفهيَ لغة الحوارِ السَّرديِّ على لسان الأمِّ؛ حيثُ يراعي الوعي الخطابيّ فيها ثقافتها دون الخروجِ عنْ الإطارِ العامِّ للنَّصِّ؛ فتشعر بعفويَّةِ الرُّدودِ وقربها من الحقيقةِ على هذا اللسانِ؛ليُمثِّلَ توازيًا آخرًا لدلالةِ الألمِ المُستمِّرِ، "كما أنَّ الإيقاعَ السَّرديَّ هنا تأتي مكنوناتُه أقلّ انتظامًا وأبعد فاصلاً"(15)؛ فالملامحُ الإيقاعيَّةُ أكثر إجهادًا للتَّناولِ عنها في مواضعَ أخرى؛ حيثُ تعبرُباللغةِ إلي فضاءاتٍ مُتعدِّدةٍ من التَّأويلِ، واعتمادُ النَّصِّ على أسلوب الحكي- الذي تعلو وتنخفضُ فيه مُنحنياتُ الدِّراما- يعبُرُ بنا فضاءاتِ الكتابةِ عبْرَ النَّوعِ الأدبيِّ ذاتِهِ، خيطًا من الدِّراما - الملحميَّةِ أحيانًا - يربطُ الحدثَ التَّفاعليَّ للنَّصِّ. 
"هُنا كانتْ دارُنا القديمَةُ.
هُنَا وُلدتُ. 
هُنَا كانتْ جدَّتي تقعدُ في كلِّ عَصْرٍ.
هُنا كانتْ عنزاتُها. 
هُنا كانَ الحَمَامُ."(16)
تفعيلٌ مُغايرٌ للغةِيُشكِّلُ الواقعَالشَّخصِيَّ الحميميَّ، "لقد ربطتْ التَّفاصيلُ النَّصَّ بالحياةِ، بواقائعِها، وطقوسِها، وبدلاً منْ أنْ تُصبحَ القصيدةُ عالَمًا منْ الكلماتِ والتَّصوُّراتِ، أصبحتْ عالَمًا من الوقائعِ والأحداثِ الحيَّةِ و الأشياءِ الحَميمَةِ"(17)، وباستعادةِ القراءةِ نجدُ الشَّاعرَ قد اختلفَ في تشكيلِهِ اللغويِّ من المقطعِ السَّابقِ وحتَّى نهايةِ الدِّيوانِ؛ حيثُ تجدُ اللغة تأخذُ لسانَ الحكي الطُّفوليِّ، ومنظورِهِ؛ فكانت تأطيرًا للمشاهدِ الحياتيَّة الحميمَةِ بمعجمٍ يُناسبُ تمامًا تلك المشاهدَ، والأهمّ أنَّها مَرْسَلةٌ من صوتِ الطِّفلِ فيه، فكان الرَّصدُ الواقعيُّ للمشاعرِ،" والتَّكوينُ النَّفسيُّ، فضلاً عن أساليبِ القصِّ الحديثِ من تيَّارِ الشُّعورِ والاستخدامِ النَّاضجِ للزَّمنِ واللمساتِ الواقعيَّةِ الدَّالةِ"(18) إثراءً للغةِ الغيابِ الحاضرَةِ بقوَّةٍ منْ الزَّمنِ الجميلِ، يقولُ دونَ فاصلةٍ للتَّوقُّفِ– كطفلٍ ينتشِي لحكيهِ -:
"أصْعَدُ السُّلمَ الخشبيَّ إلى سَطحِ الدَّارِ
وأُطلقُ طيَّارتي الورقيَّةَ إلى أعلى فضَاءٍ
تتموَّجُ كلَّما أرخيْتُ لها الخيطَ بمقدارٍ
وتختالُ راقصَةً بغمَزَاتي 
ولعدَّةِ مرَّاتٍ تكادُ أنْ ترفعَني إلى الأعالِي."(19)
نحنُ؛ إذًا، أمامَ لغةٍ تصويريَّةٍ لذاكرةٍ تتفاعلُ، وتُحلِّلُ، وتسْتدعِي وعيَها ومنظورَها و بساطتَها، وتُعيدُ بناءَ "طفولةِ الذَّاكرَةِ البَصَريَّة"(20)،وتُعيدُ، فيها، بناءَ تاريخٍ وعالَمٍ ذوى وأفلَ، ويسيطِرُ على إعادةِ بناءِ العالمِ ومكانِ العائلةِ وتاريخِها،في خطاب " هواء العائلة"، حِسٌّ طاغٍ بالألمِوالنِّستولجياوالاعتذرايَّة معًا.
الهوامش
(1) د/ جابر عصفور - الصُّورة الفنيَّة فى التُّراث النَّقديِّ و البلاغيِّ عند العرب- دار التَّنوير ، بيروت- ط 2 - 1983
(2) جون كوهين - بنيةُ اللغةِ الشِّعريَّة- تر: محمد الولي ومحمد العمري- المغرب: دار توبقال للنَّشر- ط1- 1986
(3) شريف رزق - عزلة الأنقاض- ط1 - 1994
(4) شريف رزق - مجرَّة النِّهايات- ط1 - 1999
(5) ب.غنديكو- نظريَّة الاحتمالات - تر: د جمال الدَّباغ - دار ميريت- ط2- 1990.
(6) شريف رزق - هواء العائلة- ط1 - 2016
(7) شريف رزق - هواء العائلة- ط1 - 2016
(8) شريف رزق - هواء العائلة- ط1 - 2016
(9) شريف رزق - هواء العائلة- ط1 - 2016
(10) باشلارغاستون- جماليَّات المكان- تر: غالب هلسا - المؤسَّسة الجامعيَّة للنَّشر- بيروت - ط2 - 1984.
(11) شريف رزق - هواء العائلة - ط1 - 2016
(12) شريف رزق - هواء العائلة - ط1 - 2016
(13) د/ أحمد حسَّاني- اللسانيَّات التَّطبيقيَّة وتعليميَّة اللغات "مفاهيم وإجراءات"-مجلَّة: الجسرة الثقافية- العدد 8 - 2001 
(14) شريف رزق - هواء العائلة- ط1- 2016 
(15) د. شكري الطّوانسي- شعريَّة الاختلاف- بلاغة السَّرد عند إدوارد الخرَّاط - الجزء الأوَّل- الهيئة العامة لقصور الثَّقافة - 2016
(16) شريف رزق - هواء العائلة- ط1 2016 
(17) شريف رزق - قصيدة النَّثر- ط1 2010
(18) د. حمدي السَّكوت - الرِّواية العربيَّة "ببليجرافيا ومدخل نقديّ"- المجلّد الأوّل- قسم النَّشر بالجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة- ط1- 2000
(19) شريف رزق - هواء العائلة - ط1- 2016
(20) محيي الدين اللباد – طفولة الذَّاكرة البَصَرية- مجلَّة: ألف- العدد السابع والعشرون- 2007

ليست هناك تعليقات: