صدرت حديثاً ترجمة لرواية (بعد الظلام) للروائي الياباني هاروكي موراكامي، وهو أشهر من يوضع على قائمة نوبل للآداب منذ فترة، وتحكي الرواية عن عالم الليل في طوكيو العاصمة بمهازله ومآسيه، ولا يتعدى زمان الرواية ست ساعات، تبدأ بلقاء امرأة بموسيقيّ عازف ثم بامرأة يتبين بعدها أنها قوادة، تريد منها أن تقوم بترجمة ما تقوله الفتاة الصينية لنكتشف بعد ذلك جريمة.
وفي هذه الرواية نستطلع مصيراً بالغ الأسى للهامشيين هناك، وسط المجتمع المتطور والتكنولوجيا الرهيبة، يفتح فيها موراكامي أمام القارئ عيناً غير مرئية على عالم الليل الغرائبيّ في طوكيو. تجمع الرواية ما بين الواقعية السوريالية والخيال الجموح، لكنها تكشف عن نوازع إنسانية وسط التقدم التقنيّ الجائع إلى هدم القيم واستنباط قيم جديدة بعيدة كلّ البعد عن الجوارح وعوالم الروحانية الطُهرانية.
كما نرى أن شخوصه النسويّة تعيش غالباً في عزلة دائمة، تحكمها لعبة النور والظلال، تحت رحمة أفكار سوداوية تخطّط الملامح في ألق متوتّر، بينما الزمن هو بطل اللوحة، نلمحه في خطوط وتعبيرات وألوان بسيطة تشكّل روح المكان. ومع أنه زمن محدود نسبياً، إلا أنه اعتباريّاً طويل، مع تسارع الأحداث وغرابة العالم، ضمن السرد المعرفيّ الذي يميز معمل موراكاميّ الروائيّ على الدوام.
وهذه ترجمة كاملة للرواية، في طبعة ثانية، صدرت عن دار نشر جديدة اسمها (منشورات ألف ليلة) يتولاها الروائي عبد النبي فرج.
الشاعر ومترجم الرواية : محمد عيد إبراهيم
ومن أجواء الرواية، نقتطف هذا المقطع:
(عينان تستكشفان المدينة. استوعبنا المشهد، عبر عينَي طائر يحلّق عالياً في الليل، من وسط الهواء. بنظرتنا العريضة، تبدو المدينة مثل مخلوق وحيد عملاق؛ أو بالحريّ وجود وحيد جمعيّ تخلّق من غفير من الكائنات المضفّرة. تنبسط شرايين لا حصر لها نحو نهايات جسمه المراوغ، فتُرسل معلومات جديدة وتجمّع القديمة، تُرسل مُستنفدات جديدة وتُجمّع القديمة، تُرسل متناقضات جديدة وتُجمّع القديمة. تخفق أجزاء الجسم، تبعاً لإيقاعات نبضها، ثم تتوهّج فجأة فتلتوي. منتصف الليل قريب، وريثما كانت تنقضي ذروة النشاط، تتواصل الحياة، فتُنتج جهيراً متّصلاً من عويل المدينة، لكنه مُحمّل بنذير شؤم.
يختار خطّ بصرنا منطقة نور مركّز، وبنزولنا هناك مدقّقين في صمت إليها، كان بحر من أنوار نيون. يسمّون المكان "منطقة ملاهٍ". شاشات رقمية عملاقة معلّقة بجوانب البنايات تهبط صامتة كلّما دنا منتصف الليل، بينما تظلّ مكبّرات الصوت في واجهات المحالّ تضخّ خطوط الصوت الجهير هيب هوب. مركز ألعاب ضخم محتشد بالشباب؛ أصوات إلكترونية وحشية؛ جمع من طلبة كليات يدفُق خارجاً من بار؛ مراهقات بشعور مصبوغة لامعة، سيقان عفيّة تهجم ناتئة من جونلات بالغة القصر؛ رجال في بدلات سود يتسابقون عبر مفارق مائلة للحاق بآخر قطار متّجه إلى الضواحي. حتى هذه الساعة، يحمل باعة أرصفة النوادي أجهزة زاعقة على الزبائن. عربة بضائع سوداء لامعة تنجرف إلى الشارع كأنها تخزن المنطقة عبر نوافذها شبه المسودّة. تبدو السيارة كمخلوق من عمق البحر بجلد وأعضاء خاصة. شُرطيان شابّان بانفعالات متوتّرة في دورية عبر الشارع، لكن لا أحد يلاحظ. إن المنطقة تلعب وفقاً لقوانينها في وقت كهذا. الفصل، أواخر الخريف. لا هبّة ريح، لكن الهواء يحمل رجفة. موعد على وشك أن يتغيّر.)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق