حطت الطائرة مساء فى مطار كوبنهاجن . يجب أن أنتظر ساعتين لأركب طائرة ثانية إلى مطار سانفيورد ومنه إلى أوسلو .
تُهتُ قليلا فى مطار كوبنهاجن ،حاولت العثور على البوابة التى منها ستنطلق رحلتى إلى "سانفيورد" ولم أتمكن .
سألت أحد العراقيين الذى كان معى فى الرحلة نفسها من القاهرة إلى "كوبنهاجن" . نظر فى التذكرة ورقم الرحلة ثم قال : اتبعنى . ذهبت معه حتى وجدت نفسى فى طابور قصير. قدم أوراقه لضابط خلف شباك زجاجى، وبعد فحصها خرج . جاء دورى . نظر الضابط فى أوراقى وقال لى بالإنجليزية :يجب أن تعود وتبحث عن البوابة الخاصة برحلة طائرتك ، لأن البوابة التى تقف فيها الآن ستقودك إلى خارج المطار. استدرت وعدت .
دخلت وخرجت من وإلى عدة أماكن حتى وجدت نفسى أمام الضابط نفسه . لمحتُ ابتسامة على وجهه : إذن لم تعثر عليها ! من شدة ضيقى لم أرد .
أشار إلى أحد الحراس ، فأتى إليه وتحدث معه بالدانماركية ثم قال لى بالإنجليزية : اتبعه وهو سيوصلك للبوابة الخاصة برحلتك .
بعد اجتياز عدة ممرات وتقاطعات أوصلنى للبوابة.
مرت دقائق، ورأيت شابًا أشقر ونحيفًا يقترب منى وفى يده تذكرة مثل التى معى ، سألته لأتأكد ، فقال نعم سنكون فى الطائرة نفسها ، لكن هناك على الأقل ساعة على فتح البوابة ، يمكنك أن تتجول فى المطار . قلت له :إننى لا أستطيع أن أقوم بهذه المغامرة بعد أن عانيت الوصول إلى هنا . ابتسم وتركنى .
جلست ، ولمحت الشاب الأشقر النحيل يدخل ويخرج من بعض البازارات ، ثم عاد وجلس أمامى . بدأنا أسئلة التعارف المعتادة . قال إنه من "أيسلندا" ويعمل طبيبًا فى "أوسلو" ، ويقيم فى شقة مع صديقته النرويجية .
وإنهما اتخذا قرار السفر لإجازة قصيرة ، هى لزيارة أمها فى مدينة شمال النرويج، وهو إلى أيسلندا وقد سافرا فى اليوم نفسه واتفقا على العودة نهاية الأسبوع إلى شقتهما فى أوسلو.
تذكر أن معه المفتاح الوحيد للشقة ، وأنه حال تأخره سوف تصل صديقته قبله ولن تستطيع الدخول ، ماذا ستفعل فى هذا البرد ؟ يناير ودرجة الحرارة خمس عشرة تحت الصفر .
شرد قليلا ثم سألنى : هل ينتظرك أحد فى مطار سانفيورد ؟ قلت له نعم زوجتى وصديقتها .. عاد ثانية إلى سؤالى هل معهما سيارة ؟
ــ نعم وسوف نذهب إلى "أوسلو" .
ــ هل تسمحون لى ّبأن أركب معكم حتى منتصف المسافة حيث أسكنُ ؟
قلت بالنسبة لى ّ ليس عندى مانع ، لكن يجب أن أسألهما إذا كان ذلك ممكنًا .
شكرنى ثم تحدث عن" النرويج "، وقال إنه بلد مريح فى الإقامة ، غير أن كل شىء فيه لا يبدو أنه يتحرك ، فحالة الثبات والروتين والكلاسيكية تغلف المكان والناس ، كما أن تكاليف المعيشة مرتفعة جدًا ، فهى من أغلى دول العالم . توقف عن الكلام ، ثم أضاف وهو يبتسم بسخرية : مع ذلك يعتقد النرويجيون أن بلدهم ونظام حياتهم هما الأفضل فى العالم.
سألته عن سبب رحيله عن بلده وإقامته فى "النرويج".
ــ "أيسلندا" بلد صغير وتعداد سكانه قليل ومهنتى كطبيب لها مجال أفضل هنا .
صمتُ ولم أعلق . زاد عدد المسافرين . وبعد دقائق دعتنا الموظفة الخاصة برحلتنا للدخول عندها ، لفحص أوراقنا . الطائرة صغيرة ، تسع حوالى ثلاثين مسافرًا. وصلنا بعد ساعة، نزلنا من الطائرة . رأيت زوجتى وصديقتها فى انتظارى . قدمت لهما زميلى الأيسلندى ،ونقلت لهما رغبته فى أن يكون معنا حتى منتصف المسافة . قالت تورال صديقة زوجتى ، إن سيارتها صغيرة وهناك العديد من الحقائب . سمع ما قالته ، فشد على يدى : أشكرك على محاولتك مساعدتى . يجب أن أنصرف . خرجنا من صالة المطار باتجاه سيارة تورال . الثلج على الجانبين، حالة من السكون تغلف المكان رأيته يقف وحيدًا. نبهت زوجتى وصديقتها إليه. فتحت تورال نافذة السيارة وأشارت إليه أن يأتى . جاء مسرعًا ومعه حقيبتان ، حاول إدخالهما والجلوس فلم يستطع . نظر إلينا وهو يبتسم : من الواضح إنه لا مكان لى ولحقائبى ، أشكركم .
بعد ساعتين توقفت السيارة أمام البيت ، حملتُ الحقيبة الكبيرة وحملتْ زوجتى الحقيبة الصغيرة .
ــ سأحاول أن أجد مكانًا لركن السيارة . قالتْ تورال وتحركت بسيارتها للأمام . دخلنا البيت ووضعنا الحقائب على الأرض ثم خلعنا الملابس الشتوية الثقيلة واستبدلناها بملابس تتناسب مع درجة الحرارة بالداخل . أخرجتُ سندوتشات كانت معى ، ووضعتها على المائدة .
سألتنى زوجتى هل هذه السندويتشات تكفى لثلاثة ؟ ، ثم قالت :سوف أضيف إليها بعض الطعام لنأكل معًا .
اتجهت للثلاجة وفتحتها أخرجتْ طبقًا به شرائح من لحم الدجاج وبعض التفاح . وهى تضع الطعام وتسوى المائدة ، نبهتنى إلى أن تورال ستقضى الليلة معنا .
دقائق ودخلت تورال مبتسمة ، جلسنا وبدأنا نأكل ونتكلم عن الرحلة وعن الجو. فرغتْ تورال من طعامها بسرعة، وقالتْ وهى تتثائب: أنا متعبة يجب أن أنام . قامتْ زوجتى معها وأدخلتها للغرفة التى ستنام فيها . ثم عادتْ وقالتْ لى :- يمكنك أن تصعد أنتَ أيضًا لتنام لابد أنك متعبٌ .
ــ وأنتِ ؟
ــ سأرتبُ بعض الأشياء هنا وسـألحقُ بك .
صعدتُ للطابق الثانى. أمامى نافذة زجاجية كبيرة تطل على الشارع. من خلالها أرى ثلجًا كثيرًا فى الشارع وضوء كشافات أعمدة الإنارة ينعكس عليه .
رغم البرودة الشديدة فى الخارج ، طيور كبيرة الحجم تنزل من على إحدى الأشجار تنقر إحدى علب الطعام ، فى مشهد يبدو جميلا.
صباحٌ مشمسٌ فى أول يوم لى فى "أوسلو". الشمسُ هنا ليستْ قوية كما فى مصر خاصة فى الشتاء . أجلس مع زوجتى وصديقتها تورال فى المطبخ ونتناول الفطور معًا.
رغم أننى رأيت تورال أمس ليلا لكننى أشعر أن هذه المرأة الطويلة ذات الشعر القصير والممتلئة قليلا ، صديقة منذ زمن بعيد . قلت هذا لزوجتى فابتسمتْ ولم تُعلق .
تورال تعيش فى منطقة شي ، التى تبعد حوالى أربعين دقيقة عن "أوسلو" وهى متزوجة من سودانى .
ــ غدًا عندك يومٌ حافلٌ فى الجامعة ما رأيك إذن فى جولة لاستكشاف المكان ؟ سألتنى تورال بدعم من زوجتى .
ــ موافق فالجو مشمسٌ وأنا أتطلع لمشاهدة الغابة . ابتسمتْ وعلقتْ بمرح : الشمس لا تشرق هنا كل يوم، لكن يبدو أن سماء "أوسلو" ترحب بك .
أردتُ مشاكستها : أو ربما الشمسُ لحقتْ بى من مصر .
الثلجُ على فروع الأشجار ، فوق الأوراق ، فى طرقات وممرات الغابة . بعض الأشجار سقطتْ عنها أوراقها ، رغم أن معظم أشجار الغابة لا تزال خضراء داكنة .
العديد من الرجال والنساء يتزحلقون أو يمشون بسرعة وقوة على الثلج ومعهم أدوات التزحلق .
البعض يتريض مع كلابه، أرى رجلا وامرأة ومعهما ثلاثة كلاب .
مشينا لمسافة ليستْ كبيرة .ثم جلسنا على دكة خشبية.
ــ سوف آتي إلى هنا دائمًا !
ــ هذا جيدٌ ، لكن يجب ألا تتوغل فى الغابة ، كى لا تفقد الطريق . عَلقتْ زوجتى ثم شَرحتْ لى الأماكن التى يُمكن أن أتجولَ فيها وطريقة الذهاب والرجوع.
تورال تتكلم عن زوجها بشير ، عن عمله وعن كورسات اللغة النرويجية ، وعن رغبته فى أن يرانى واعتذاره عن أنه لم يكن فى استقبالى .
ــ من الضرورى أن تأتوا لزيارتنا فى عطلة نهاية الأسبوع قالت تورال ، فوافقنا بشرط أن نحدد التوقيت ، وبعد أن ننهى أوراق الإقامة والدراسة .
ــ أعرف هذا فقد خبرنا أنا وبشير هذه المرحلة ، لكن بالنسبة لك أسهل على ما أعتقد .
لماذا الوضع أسهل بالنسبة لي ؟
ــ لأنك تتحدث الإنجليزية بشكل جيد ،وهذا يساعدك على التفاهم والتواصل مع الناس ومع زوجتك .
أجابتْ تورال عن سؤالي ثم نظرتْ بعيدًا في اتجاه بعض الأطفال الذين يلعبون بكرات الثلج . لم أعلق على إجابتها ، غير أننى فكرتُ فى موضوع التواصل هذا ، هل هى وزوجها لا يستطيعان التواصل بشكل جيد ؟
_____
فصل من رواية " شتاء اخضر دافيء لأحمد الشريف تصدر قريبا عن منشورات الف ليلة وليلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق