ذات منقسمة في رواية «سجن مفتوح»
للكاتب: عبد النبي فرج
د. شاكر عبد الحميد
من خلال "عين ذبابة" يتم تقديم ذلك العالم الخارجي الذي تحويه هذه الرواية، و"الذبابة" تحدث نفسها في مونولوج طويل تتأمل خلاله ذلك الكائن البشري الذي يغط في نومه في حانوته، مكان عمله.
فما السجن الكبير الذي عاش فيه عبدو البقال، ذلك الذي تدور معظم أحداث الرواية وتروي عنه أو على لسانه؟ هل السجن سجن الروح؟ هل سجن الواقع؟ هل الوطن؟ هل البشر؟ هل الفقر والفاقة وضيق ذات اليد؟ هل الفشل؟ هل العجز عن التحقق بها بشكل عام؟
هنا في الرواية بقال وحيد، على الرغم من أنه يعيش مع أمه بعد زواج أخيه الأكبر .. بقال يهوى النوم ويعشق القراءة، بقال يقرأ ويكتب، ويعرف يوسا وماركيز ورينوار وغيرهم، كما أنه يكتب كتابات لا يرضى عنها، ويقول عنها: "إنها تشبه الكتابة".
بقال مثقف، أو مثقف بقال .. يعيش في غرفة صغيرة، في بيت صغير ضيق، أُلحق به "دكان" صغير ضيق، عالم شديد الضيق والحصار، لكنه اتسع بالقراءة والثقافة، وكذلك بالحكايات المتفكهة المرحة الزاخرة بالدعابات والتعبيرات الدارجة اللطيفة أحيانًا، والفاحشة أحيانًا أخرى، وكذلك الأمثال الشعبية والطرائف.
وهذه كلها وسائل وحيل، وأساليب مقاومة يواجه البقال بها ذلك العالم الذي أصبح بالنسبة له سجنًا كبيرًا، مرة يحاول الخروج مه بالقراءة، ومرة بالكتابة، ومرة ثالثة بالذهاب إلى القاهرة ومقابلة بعض أصدقائه من الكُتَّاب والمثقفين، ورابعة بتعذيب النفس وتمزيقها، بل وتقطيع بعض أجزاء الوجه وبثوره، والتلذذ بتذوق الدماء السائلة منها، وكذلك الاستغراق في أحلام يقظة ليلية، وممارسات أيروتيكية استنمائية لا تنتهي إلا باستغراقه في النوم، وانبجاس عوالم من الأحلام الدموية العنيفة، أو الأنثوية اللطيفة، لكنه ــ ودومًا ــ في أحلامه وكذلك في كوابيسه، يقابل تلك النسخة الأخرى منه، تلك النسخة التي تشبهه شكلًا، وقد تختلف عنه مضمونًا، وهنا ما يشبه التوظيف لآلية الإسقاط في الأحلام من جانب البقال المثقف على صورة أخرى منه، إنه قرينه الحلمي الذي يظهر له دومًا ويتبدى، مرة ساخرًا، ومرة لطيفًا مجاملًا، ومرة ناقدًا، والشخص الأصلي الحالم (البقال) قد أصابه الملل من كثرة ظهور هذه النسخة الشبيهة به في أحلامه.
وفي ضوء التحليل البسيط لآلية الإسقاط، فإن البقال هنا إنما كان يسخر من نفسه وينتقدها، يتمنى أن يتخلص من صورته الحقيقية، أن يبيدها، يقتلها، يهلكها، ينزع عنها رأسها، ثم يغني فرحًا ومرحًا بالخلاص من ذاته، من رأسه، من أفكاره، من أحلامه، من كل ما قد يمثل بالنسبة إليه حصارًا أو عذابًا مقيمًا لا ينتهي.
وفي الرواية إشارة إلى عالم رواية «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم، حيث يصف السارد عالمه بأنه عالم سوداوي مرير، فيه تحولت الحياة الرحبة إلى سجن، سجن مفتوح تنتهك فيه كرامته يوميًّا، إحساس مرعب بالعجز والضعف، ودون أي طاقة للخروج.
إنها ذات منقسمة بين لقمة العيش الكريمة والكتابة، فالقارئ الكاتب يعمل بقالًا، و"البقال" اقتنع ودخل المحل باعتباره طوق حرية ينجيه من التسول والتعالي وعنف مثقفي ومخبري وسط البلد، أخذ يقرأ في نهم ويتابع السياسة والبرنامج الثاني وكل وسيلة متاحة، هكذا غرق في جانب من حياته بين جدالات ومساومات حول السكر والشاي والمكرونة وورقة المعسل والصابون وكيس الأومو وجراكن الكلور، والفول المدشوش والحصى والعدس والشعرية، وبين التحديق في أجساد العابرات ومداعبة الجميلات وغير الجميلات، الصغيرات والكبيرات من القائمات بالشراء، بالآجل أو العاجل، من خلال حوارات لطيفة أو فاحشة زاخرة بالتوريات والتلاعب بالكلمات والتعبيرات الجنسية الموحية، ثم الانغماس في قراءة أعمال صنع الله إبراهيم، وعبد الحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبد الله وأمل دنقل وماربو بارجاس يوسا وغيرهم .. والاكتفاء من الإشارة إلى هذه الأعمال، أو إلى حياة هؤلاء الكتاب وبعض الفروق الدالة بينهم.
ويتوالى فيضان الأحلام والكوابيس وهجومها على لاوعيه الليلي، فتظهر أحلام عنيفة زاخرة بالضرب والقتل والعصابات والمخدرات والسرقات وحوادث الاغتصاب، في كثير من أحلامه يجد أن الذي يقوم به بالفعل العنيف هو نسخته الأخرى، تلك النسخة التي تحولت تدريجيًّا ــ عبر السرد وعبر الأحلام ــ من نسخة مسالمة مستكينة إلى نسخة شريرة، إلى قاتل متسلسل مغتصب عنيف.
والوحشة تقتل البقال والكآبة تخنقه، هكذا يستغرق في حالات من الحيرة واليأس والالتباس وفقدان اليقين، هكذا تتداخل لديه عمليات البيع والشراء والتجارة، بالحب والأدب والثقافة والسياسة والحياة وتفكك الذات واضطراب الهوية، وتتداخل لديه أيضًا عوالم اليقظة والإدراك مع عوالم الحلم والكوابيس، نهارية كانت أو ليلية، وإنها لعوالم مختلطة دومًا، بغريزتي الحياة والموت، الجنس والقتل، اللطافة والغزل والحب من ناحية، والخشونة والسباب والإيذاء اللفظي والبدني والاغتصاب والقتل من ناحية أخرى، وما النسخة الأخرى من الذات إلا "تكئة" تلجأ إليها هذه الذات كي تحقق عن طريقها نوعًا من التوازن أو الاستقرار النسبي، الذي تفتقده في الواقع، بين مكوناتها المتداخلة المضطربة المتأججة والمحبطة في الوقت نفسه.
هكذا تنتقد الذات الصاحية الذات النائمة بداخلها في البداية على تخاذلها وسكونها، بل إنها قد تقتلها فعليًّا أو مجازيًّا ورمزيًّا، ثم إنها تتحول بعد ذلك إلى ذات عنيفة مولعة بالقتل بالعنف والدم، لكن ذلك كله يحدث في عالم الأحلام أو الكوابيس، عالم الليل، بعد أن تنتهي الذات من أنشطتها النهارية اليومية الرتيبة التي تهيمن عليها عمليات بيع وشراء من خلالها يتحول البقال ذاته إلى سلعة تباع وتشترى، إلى ذات إنسانية مستلبة ومتشيئة، وذلك لأنها بينما كانت تعتقد أنها تمتلك مصيرها، من خلال تحكمها في عمليات البيع والشراء للسلع، كانت في الوقت نفسه قد تحولت هي ذاتها إلى سلعة من نوع ما، سلعة يتم بيعها وشراؤها، وإن يُثمن بخس في هذا العالم الذي يهيمن عليه أشرار حولوه إلى سجن كبير، فأنت ــ حتى وأنت خارج السجن ــ في سجن، قد تدرك أنك موجود فيه وقد لا تدرك ذلك، فهذا السجن سجن مفتوح، سجن بلا أسوار مدركة، لكنه سجن أكثر وحشة وضيقًا من تلك السجون المعروفة هكذا، ذلك المكان الضيق والذي اعتقد البقال أنه يسيطر عليه، قد أصبح هو المسيطر والمهيمن والمتحكم في سلوكه.
وهكذا فإنه وجد نفسه قد هرب من ذلك السجن الخارجي الكبير إلى سجن داخلي صغير، لكنه أكثر حصارًا وانتهاكًا لروحه من ذلك السجن الكبير، لقد ضاقت الأرض بما رحبت، فأصبح يهرب من سجن إلى سجن آخر، فصار السجنان مفتوحين ومتداخلين معًا على اتساع أفق الحياة ورحابتها، ولم يكن أمامه سوى أن يكتشف في ذاته ولذاته بدائل للمقاومة، وقد كانت القراءة هي البديل الأول، وكانت الكتابة البديل الثاني، والسخرية البديل الثالث، والأحلام البديل الرابع، ولكن ما من حب حقيقي هناك، وما من صداقة حقيقية.
وهكذا تداخلت في هذه الرواية سرديات المتكلم بسرديات الغائب بسرديات الحالم بسرديات المتفكه العبثي الساخر، بتأملات حول ألف ليلة وليلة، حول الأساطير والخرافات والروايات والأفلام وأبطالها وبطلاتها وعوالمها الغريبة العجيبة المدهشة والمذهلة.
هكذا كان عبدو منقسمًا بين بيع السكر واللانشون والسجاير والمكرونة وبين أحلامه المتعلقة بـ"يوسا وماركيز وسيرفانتس" ونحوهم، وتتوالى لديه الأحلام، بعضها أشبه بالأحلام الواردة في ألف ليلة وليلة، أحلام الشبع والشهرة والراحة واجتراح المعجزات والإتيان بالعجائبي، صعود بخفة فوق قمم الأشجار، وهبوط عنيف في أعماق الآبار، وقرينه لا يكف عن ملاحقته، أو بالأحرى لا يكف هو عن ملاحقة قرينه، عن ملاحقة ذاته، عن مطاردتها، عن محاولة استكشاف أعماقها، عن دفعها للخروج من سجنها الخاص الذي وضعت نفسها فيه داخل ذلك السجن الكبير العام المفتوح، وقرينه يتحول مرة إلى وحش ومرة إلى غول، أو سعلاة، كما حدث بالنسبة للسندباد البحري عندما شرب خمر اليقطين والعنب كي يتخلص من ذلك الشيطان الذي تجسد أمامه في صورة شيخ مليح، طلب منه مساعدته وحمله من مكان إلى آخر، ولم ينزل عن كتفيه إلا بعد معاناة وعذاب شديد.
هكذا يُدخلنا عبد النبي فرج في القسم الثاني من روايته، إلى عالم الليالي، لكنه يستغرق هنا في تأملات حولها أشبه بتلك التي قام بها كونديرا في بعض أعماله حول الضحك أو الخفة أو البطء أو النسيان أو التفاهة، وعبد النبي فرج أيضًا صاحب موقع إلكتروني معروف لكثير من الكتاب عنوانه «ألف ليلة وليلة»، وقد ذخر بالكثير من الكتابات والإبداعات حتى توقف. لكن توالد الأحلام يعقبه أيضًا توالد القهر والإحباط والعذاب والتعذيب، هكذا يعود عبدو إلى دكانه، يعود إلى الواقع، يصحو من أحلامه، يعود إلى "دكانه"، وإلى سجنه الكبير .. يتساءل بعد أن يصحو من كوابيسه وعرقه واختناقه: "أنا مش عارف بالضبط واحد لا يفعل شيئًا في الحياة سوى الجلوس على كرسيه مثل الضفدع في انتظار زبون، وفي نهاية اليوم يحلب نفسه كالجاموس وينتظر المجد، أي مجد؟!".
وخلال لحظات يأسه وإحساسه اليقيني بالفشل كان يتحرك في الغرفة كالثور الهائج، ثم بعد أن يصاب بالإنهاك والتعب ينام، وبعد أن ينام يظهر له في أحلامه، أو في كوابيسه، ذلك الوجه الآخر منه، ذلك الشرير، تلك النسخة القاتمة المعتمة من الذات، ذلك الظل، ليل الذات الذي لا ينتهي، ويوجه عبارته الغاضبة نحو صورته الأخرى، تلك التي ظنها أكثر منه شرًّا وأشد خبثًا، لكنه ــ وتدريجيًّا ــ يشعر بأنه قد فقد سيطرته على نفسه، وأصبح ضعيفًا مخذولًا أمام النسخة الأخرى منه التي أصبحت أكثر قوة، وتكتفي فقط بترديد همسات مكتومة ودمدمات قاسية وغمغمات مستنكرة مستكينة أمام غضباته الهائلة.
في هذه الرواية رصد لسيطرة المكان على الإنسان، وتصوير لهيمنة الواقعي والسياسي والاجتماعي على السيكولوجي والخيالي، لكن هذه الهيمنة قد تكون ظاهرية سطحية، وقد تكون مؤقتة، فبالخيال قد نحكم العالم كما كان نابليون يقول، والخيال أبعد أثرًا من العقل كما قال آينشيتن، وعبدو يواجه واقعه الضيق وسجنه الكبير بالخيال والتظاهر والتفكه والتخيل، وهو يعي اغترابه وتغربه وغربته في الزمان كثيرًا ويشي بها، كما أنه يحاول أن يفلسف أمور حياته، فيجعل من عائلته ــ ودكانه ــ موضوعًا لفلسفته، فعائلته تُسمى لكثرة نوم أفرادها «عائلة النوامين»، والنوم لديهم "أساس الحياة"، والدكان بعد فترة من العمر يكتسب شخصية مشتعلة ويمارس هيمنته على المكان وعلى صاحب الدكان، والدكان أيضًا يصاب بالملل والسأم من كثرة تعامله مع الأشخاص أنفسهم والحيل والمكائد نفسها، ثم إنه ينظر إلى ذاته على أنه أفضل من صاحبه، ويقمع صاحب المحل ويجعله جزءًا من البضاعة، شيئًا موجودًا يؤدي عملاً ويلعب دورًا، لكنه دور ثانوي. وأيضًا "الدكان لا يحب شريكًا، فقط عليك أن تكون الأول في حياته"، "وبعد ذلك يأتي من يأتي، لا يهم".
ثم هناك تأملات وحكايات ونوادر مضحكة عن تجار الجملة والقطاعي وإخراج الدفاتر والمغالطات في الحسابات والفواتير والسلع وغير ذلك من الأمور، وعن الدين والتدين الكاذب، والسينما والأحلام والأفلام عن الحب والفشل، والكتابة، ومقاهي القاهرة وباراتها، وثمة حكايات كثيرة عن علاقات البقال العاطفية وعن شهواته الجنسية، عن أهل القرية من جيران البقال، عن عالم الليل وعالم النهار، عن الهناء والشقاء، عن نسخته الشريرة التي كان يوجه إليها نقده وعنفه، والتي تحولت إلى نسخة ناقدة له، إلى صورة ليلية مخلقة شجية، لكنها أكثر وعيًا وتماسكًا من صورتها النهارية التي أوشكت أن تقع في براثن العنف والتخاذل واللحاق بالقطيع، لكنها سرعان ما تتماسك وتقاوم.
تدريجيًّا تصبح ذاته الأخرى هي ذاته الأولى والأقرب إليه، تصبح هي صوته الخاص، صوته الذي اكتشف من خلاله وعبره القراءة والكتابة والتمرد، ومن خلاله أيضًا خرج من سجنه الكبير، ذلك السجن المفتوح، لكنه الذي لم يعد قادرًا بعد ذلك أن يقيده أو يحتجزه دومًا، بداخله .. والقرين ــ كما نعرف ــ هو ظهور أو تجلٍّ شبحي لحالة داخلية تحدث انقسامًا داخل الذات، وفي الوقت نفسه تحدث التكامل الخاص بهذه الذات، على الأقل أمام نفسها، من خلال هذا الانقسام ذاته، بأن تبعد عن نفسها ذلك الجانب السلبي الغامض المخيف منها، وتسقطه على صورة أخرى لها، وتكون هذه الصورة الأخرى، النسخة الأخرى، هي ذاتها، قرينها .. إنها صورة محاكية ثانوية، أي صورة هوية تشتمل على الذات وموضوعها، هويتها الأخرى، كينونتها .. هنا لا تتشكل الذات إلا من خلال قرينها، أو شبحها، أو صورتها الخفية الأخرى، كما أشار جوليان وولفريز.
في هذه الرواية نقد للواقع، ورصد للتشوهات التي أصابت الإنسان المصري في المدينة والقرية، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده .. هنا نقد للواقع ونقد أيضًا وانتقاد للواقع الثقافي المصري المعاصر، لعالم المثقفين، والمؤسسات الثقافية، وأدباء وسط البلد، للتناقضات والازدواجية والخداع والزيف، للنفاق والتلون والكذب والطعن في الظهر، للسطحية ولكل ما من شأنه أن يجعل الحقيقة بهتانًا والبهتان حقيقة، وقد كان البقال المثقف يشعر بالضياع، "وأن حياته انتهت إلى الأبد، ولن يكون له شأن أبدًا، في قاهرة الجحيم .. إيه؟ الغلط فين؟".
كان يشعر أن هذه المدينة لن تقبله أبدًا، وأن احتماله يفوق قدراته ومثابرته، وينتهي به الأمر بأن يلفظ القاهرة ويتجاهلها ولو بشكل مؤقت، ويقول لنفسه: "لتعش في البلدة، وتدخل سجنك الخاص وتمارس حريتك كيفما تشاء، حرية الكتابة، حرية القراءة، حرية أن تكون صادقًا وحقيقيًّا، رغم أنف الجميع.
هكذا، وبالوعي والصدق والكتابة، امتلك عبدو البقال، أو عبد النبي فرج، حريته، وخرج من سجنه المفتوح، وكتب هذه الرواية الجميلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق