شعر محمد عيد إبراهيم *
صورةٌ قديمة، عُمرُها 40 عاماً، يبدو فيها عبدُ المقصود عبد الكريم، أولَ يَمينٍ، متأثّراً للغايةِ، وهو يأكلُ سندوتشَ، ويداهُ مَعقودَتان على حِقْوَيهِ من الأمامِ، بنصفِ اللّفَّةِ، يُمنى على يُسرَى. وجههُ مثلَ نجومِ مُطربي "البلوز" في خَمسِينياتِ أمريكا، بشَعرٍ مُهوَّشٍ كثيفٍ، وملامِحَ غاضِبةٍ ثائرة، معَ نَظَّارةٍ واسعةٍ، فوقَ شارِبٍ كَثٍّ غليظٍ كانت البناتُ تخافُ منهُ أيامَ الجامعةِ، وتحتَ إبطهِ اليَسارِ كِتابٌ سَمِيك.
كنا ثلاثةً، في الصورةِ، أنا الثاني، على اليَمِينِ أيضاً، ويَساري فَتاةٌ؛ تلبسُ بنطلونَ شارلستونَ، تحتَ بلوزةٍ باهتةٍ، لا أدري ما لَونُها، فالصورةُ أبيضُ وأسودُ، شاحِبٌ طَرفُها، حيثُ لم تكُن الألوانُ قد ظَهَرَت، معَ حَقِيبةٍ أظنُّها تقليدَ "كوكو"، بسِلسَالٍ طويلٍ، وهي تميلُ نحوي قليلاً، في يَدَيْها نَظَّارةٌ مُطبَقَة، فأنا أُنادِمُها.
جِسمي وجِسمُ عبدِ المقصودِ يقتَرِبان، يلتَصِقان في أعلى الذراعَين، لكنّ رأسَينا متَفارِقان، كلٌّ بناحِيةٍ، ولا أقصدُ دِلالةً من عِبارتي الأخيرةِ، حيثُ نبدو ثُلاثَتُنا منسَجِمِين، فلم يكُن الشِّعرُ ضاغِطاً وَقتَها لِيَحصِرنا، لكني آخُذُ الفتاةَ بكلامٍ، فَفَمِي منفوخٌ لا أذكُر أنّي أُموِّه بماذا، بينما تمتدُّ كَفُّ ذراعي اليَمِين أماماً على قاعِدةٍ، كأني أُخرِجُ بَيضَةً مِن مِنديلٍ، وفي رُسغِي الأيسرِ ساعةٌ، وبقَبضَتي كُتَيِّبٌ أَضُمُّهُ مفتوحاً على صَفحَةٍ.
كانت ساقا عبدِ المقصودِ، مثلَ ساقَيَّ، يُسرَى أمامٌ ويُمنى وراءٌ، معَ مَيلٍ قليلٍ ضِمنَ صابونةِ اليُمنَى. أما ساقا الفتاةِ فالنَقِيضُ، يُسرَى وَراءٌ ويُمنى أمامٌ، ولا مَيلَ يبدو بمِشْيتِها، فهيَ ثابِتةُ الخُطوةِ، على ثَغرِها شِبهُ ابتسامةٍ، وفوقَ رأسِها كابٌ فيهِ فروٌ عَكسَ لَونِ الكابِ، كأنّها إيزِيسُ قد بانَت فجأةً، على أبيضٍ بَسيطٍ، كما تبدو حَنيَةُ الفَخذِ ملساءَ ناعِمَةً نحوي تماماً، كَقَوسٍ عذراءَ لم تلمَسني في نُقطَةٍ واحدة.
بماذا أُحاوِلُ إقناعَ الفتاةِ، ولمَ كانَ عبدُ المقصودِ ثائِراً سابِحاً في فِكرةٍ، كأنهُ نَسِينا، وسطَ ما يبدو أنهُ مَرجٌ، على نَمطِ لِسانِ بَحرٍ يخِرُّ منسَحِباً فتَهدِلُ أمواجهُ، وضدّ ما تُحِسُّهُ مِن منطِقٍ بعدَما ترى عربةَ جيبٍ سوداءَ غريبةً، أعلى يَسارِ الصورةِ، عندَها رجُلان في لَونٍ كالهَواءِ، يرفَعان بندقيتَين مِن دونِ تَصويبٍ. والغريبُ أن ظِلّي وظِلَّ الفتاةِ، من تَحتِنا، متَعانِقان، كَمَن يريدُ تَحقِيقَ حُلمٍ، بينما ظِلُّ عبدِ المقصودِ يمشي وحدَه، على بُعدِ سنتيمتر.
___________________
من ديوان " عيد النساج" للشاعر محمد عيد ابراهيم والصادر عن جماعة "أنا الآخر"
* شاعر ومترجم مصري، مواليد 1955، القاهرة، خريج جامعة القاهرة، كلية الإعلام قسم الصحافة 1978. ترجمت أشعاره إلى أكثر من لغة عالمية. أنشأ سلسلة "آفاق الترجمة" في هيئة قصور الثقافة بمصر وعمل مديراً لتحريرها ما يزيد عن عامين أصدر فيها أربعة وخمسين عملاً فكرياً وإبداعياً بترجمة نخبة من المصريين والعرب. كما عمل مديراً تنفيذياً على "المشروع القومي للترجمة" في المجلس الأعلى للثقافة. وقد أنشأ سلسلة (نقوش) للفن التشكيلي، من إصدار هيئة قصور الثقافة بالقاهرة، وعمل مديراً لها الفترة (1997 ـ 1998)، وكانت تُعنى برسوم الأبيض والأسود فقط للفنانين العرب، وقد أصدر فيها ما يزيد عن (15) عدداً. ينشر أشعاره وترجماته بمعظم الصحف والمجلات والدوريات المصرية والعربية. دُعي إلى عديد من مهرجانات الشعر في الدول العربية: جرش بالأردن، عتبات بالمغرب، ودبي الشعري، وغيرها. يعمل حالياً مترجماً بهيئة قصور الثقافة في القاهرة، مصر. .
الشاعر محمد عيد إبراهيم
صورةٌ قديمة، عُمرُها 40 عاماً، يبدو فيها عبدُ المقصود عبد الكريم، أولَ يَمينٍ، متأثّراً للغايةِ، وهو يأكلُ سندوتشَ، ويداهُ مَعقودَتان على حِقْوَيهِ من الأمامِ، بنصفِ اللّفَّةِ، يُمنى على يُسرَى. وجههُ مثلَ نجومِ مُطربي "البلوز" في خَمسِينياتِ أمريكا، بشَعرٍ مُهوَّشٍ كثيفٍ، وملامِحَ غاضِبةٍ ثائرة، معَ نَظَّارةٍ واسعةٍ، فوقَ شارِبٍ كَثٍّ غليظٍ كانت البناتُ تخافُ منهُ أيامَ الجامعةِ، وتحتَ إبطهِ اليَسارِ كِتابٌ سَمِيك.
كنا ثلاثةً، في الصورةِ، أنا الثاني، على اليَمِينِ أيضاً، ويَساري فَتاةٌ؛ تلبسُ بنطلونَ شارلستونَ، تحتَ بلوزةٍ باهتةٍ، لا أدري ما لَونُها، فالصورةُ أبيضُ وأسودُ، شاحِبٌ طَرفُها، حيثُ لم تكُن الألوانُ قد ظَهَرَت، معَ حَقِيبةٍ أظنُّها تقليدَ "كوكو"، بسِلسَالٍ طويلٍ، وهي تميلُ نحوي قليلاً، في يَدَيْها نَظَّارةٌ مُطبَقَة، فأنا أُنادِمُها.
جِسمي وجِسمُ عبدِ المقصودِ يقتَرِبان، يلتَصِقان في أعلى الذراعَين، لكنّ رأسَينا متَفارِقان، كلٌّ بناحِيةٍ، ولا أقصدُ دِلالةً من عِبارتي الأخيرةِ، حيثُ نبدو ثُلاثَتُنا منسَجِمِين، فلم يكُن الشِّعرُ ضاغِطاً وَقتَها لِيَحصِرنا، لكني آخُذُ الفتاةَ بكلامٍ، فَفَمِي منفوخٌ لا أذكُر أنّي أُموِّه بماذا، بينما تمتدُّ كَفُّ ذراعي اليَمِين أماماً على قاعِدةٍ، كأني أُخرِجُ بَيضَةً مِن مِنديلٍ، وفي رُسغِي الأيسرِ ساعةٌ، وبقَبضَتي كُتَيِّبٌ أَضُمُّهُ مفتوحاً على صَفحَةٍ.
كانت ساقا عبدِ المقصودِ، مثلَ ساقَيَّ، يُسرَى أمامٌ ويُمنى وراءٌ، معَ مَيلٍ قليلٍ ضِمنَ صابونةِ اليُمنَى. أما ساقا الفتاةِ فالنَقِيضُ، يُسرَى وَراءٌ ويُمنى أمامٌ، ولا مَيلَ يبدو بمِشْيتِها، فهيَ ثابِتةُ الخُطوةِ، على ثَغرِها شِبهُ ابتسامةٍ، وفوقَ رأسِها كابٌ فيهِ فروٌ عَكسَ لَونِ الكابِ، كأنّها إيزِيسُ قد بانَت فجأةً، على أبيضٍ بَسيطٍ، كما تبدو حَنيَةُ الفَخذِ ملساءَ ناعِمَةً نحوي تماماً، كَقَوسٍ عذراءَ لم تلمَسني في نُقطَةٍ واحدة.
بماذا أُحاوِلُ إقناعَ الفتاةِ، ولمَ كانَ عبدُ المقصودِ ثائِراً سابِحاً في فِكرةٍ، كأنهُ نَسِينا، وسطَ ما يبدو أنهُ مَرجٌ، على نَمطِ لِسانِ بَحرٍ يخِرُّ منسَحِباً فتَهدِلُ أمواجهُ، وضدّ ما تُحِسُّهُ مِن منطِقٍ بعدَما ترى عربةَ جيبٍ سوداءَ غريبةً، أعلى يَسارِ الصورةِ، عندَها رجُلان في لَونٍ كالهَواءِ، يرفَعان بندقيتَين مِن دونِ تَصويبٍ. والغريبُ أن ظِلّي وظِلَّ الفتاةِ، من تَحتِنا، متَعانِقان، كَمَن يريدُ تَحقِيقَ حُلمٍ، بينما ظِلُّ عبدِ المقصودِ يمشي وحدَه، على بُعدِ سنتيمتر.
___________________
من ديوان " عيد النساج" للشاعر محمد عيد ابراهيم والصادر عن جماعة "أنا الآخر"
* شاعر ومترجم مصري، مواليد 1955، القاهرة، خريج جامعة القاهرة، كلية الإعلام قسم الصحافة 1978. ترجمت أشعاره إلى أكثر من لغة عالمية. أنشأ سلسلة "آفاق الترجمة" في هيئة قصور الثقافة بمصر وعمل مديراً لتحريرها ما يزيد عن عامين أصدر فيها أربعة وخمسين عملاً فكرياً وإبداعياً بترجمة نخبة من المصريين والعرب. كما عمل مديراً تنفيذياً على "المشروع القومي للترجمة" في المجلس الأعلى للثقافة. وقد أنشأ سلسلة (نقوش) للفن التشكيلي، من إصدار هيئة قصور الثقافة بالقاهرة، وعمل مديراً لها الفترة (1997 ـ 1998)، وكانت تُعنى برسوم الأبيض والأسود فقط للفنانين العرب، وقد أصدر فيها ما يزيد عن (15) عدداً. ينشر أشعاره وترجماته بمعظم الصحف والمجلات والدوريات المصرية والعربية. دُعي إلى عديد من مهرجانات الشعر في الدول العربية: جرش بالأردن، عتبات بالمغرب، ودبي الشعري، وغيرها. يعمل حالياً مترجماً بهيئة قصور الثقافة في القاهرة، مصر. .
الشاعر محمد عيد إبراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق