محمدالسيد إسماعيل
يمكن قراءة الرواية الأخيرة للكاتب المتميز عبدالنبي فرج" سجن مفتوح "من خلال توظيف الإمكانات المتعددة لعناصر المكان واستغلال أقصيدلالاته, وربما بدا ذلك واضحا من العنوان ذاته الذي يتكون من " خبر " للمبتدأ محذوف ثم صفة تبدو متناقضة مندلالات الخبر،حيث يوحي السجن بالانغلاق والحجز والتقييد وهو ما يجعلنا أمام مفارقة أولية سوف تضخم على مدار الرواية بحيث تصبح أزمة حقيقية مستحكمة لا يجد البطل
حلا لها وصف السجن بأنه مفتوح يدفعنا إلىتأويل ثنائية الظاهر والباطن فالظاهر أن البطل يعيش حياته بين القرية والمدينةودكان البقالة ومقهي" البستان"، وبار"ستيلا " لكن الباطن يؤكدأنه"مقيد "داخل"سجن " وإن بدا ظاهرياً مفتوحاً.
الرواية تعدد مظاهر هذا "القيد" الذي يشبه القدرية الاجتماعية والنفسية، فهناك "جسد" شبقى يعانى الحرمان ولا يجدلذته إلا فى الوهم واستحضار عوالم خيالية يستنزف بها نفسه, " جسده" يقبلعلى "الطعام بشهية "جائع"ثم يستفرغه بعد لحظات لكى يستريح ويتهيأللنوم. " جسد " ظل يضمر ويضعفحتى فقد شهوته لكل شيء وأصبح هذا "الوهم " الذي كان يستحضره كابوسا يفزعه منه وهو ما تنتهي به الرواية وتنتهي به حياة السارد، حيث " وقف يجري بين الأشجار يبحلق وهو شبه غائب عن الوعي، ينادي عليها_يقصد الفتاة التي حلم بها_ بأعلى صوت صرخ : هذا كابوس وانخرط فىالبكاء". " المرأة "_دائما_ هي الحلم المفتقد، حلم التحقق الذاتي والتواصل والامتداد، وعلى النقيض من هذا"الجسد" المسجون وشبه المقعد,تظل الروح فى انطلاقاتها الخيالية: " ترك روحه تنسل منه فى رشاقةوتبحر"مستحضرة نساء بيضاويات كالحليب وصافيات كالبلور وليس عجيبا أن يصف مايستشعره من لذة فى هذه السياحية الروحية ب "الإيروتيكا السماوية"،مايجعل الاحتياج إلى "الانثي"_هنا_احتياجاً كيانياً يشمل الروح والجسد، منهنا تأتي إرادات التحدي والمفاجئة والمتقطعة وسط حالة ممتدة من الإحساس بالعجزوالقيد والفراغ وعدم التحقق من ذلك_مثلا _ تلك الإشارات الكنائية التي يوحي بهاالتخلص من الأشياء التالفة التي يشعل فيهاالنار –لاحظ دلالة النار على التطهر- أو يلقى بها من الشباك، أو تأمل الذات /الجسد فى المرأة كنوع من مواجهة الحقيقية:," أخذ يتأمل البثور، من أي مكان فاسدتنبت هذه الدمامل القميئة وبضربة قاتل محترف ضرب البثرة فانفجرت، ضرب الأخر التيفى أعلى الخد، تدفق الدم(ص 14 )وهو مشهد ما يؤكد ما يسمي بجماليات العنف والقسوةوتظل دلالات الدم متوازية مع دلالات النارفالنار فى الإيحاء بالرغبة فى تغيير الذات واستبدالها بالذات القديمة التي ترزح فى قيودها المكانية والاجتماعيةيتخذ السارد وضعية الراوي العليم، وهي وضعية يحرص الكاتب عليها كثيرا فى العديد منأعمالة يقول مثلا متحدثا عن البقال يتماهيمعه الكاتب:" نفض البقال وهذه صفته التي ستلاحقه باقى عمره " كسله"وقرر أن لا جدوي من البقاء فى المحل أكثر من ذلك (ص9) فالجملة الاعتراضية بينالقوسين تتجاوز حاضر" البقال"إلى مستقبله ليس على سبيل الاستشراف بل علىسبيل اليقين ولى موضوع أخر يتم كسر "الإيهام"على طريقة المسرح البريختيالذي يخاطب العقل مبتعداً عن التوحد الوجداني فى المسرح الأرسطي حين يقول مثلا"قالت الذبابة-هى نفسها التي ظهرت فى الفصل الأول-لنفسها وهي تطير فى يوم جحيمي وأجنحتها الرقيقة تقلب فى هواء خاملاً وصهداً يجعلها تزفر وتكره الحياة، كيفاحتمل كل هذه الحرارة الملعونة"(ص125)، فالإشارة إلى الفصل الأول تؤكد رغبة الكاتب فى ضرب حالة التوحد مع العمل كما لو كان قطعة صريحة من الحياة ويظل عنصرالخيال " التاليفى" هو أصل الكتابة، من هنا تاتي تعليقات "الذبابة" على أفعال "البقال"ووصفها بأنها طريقة "عبيد"لا"أحرار"والتعليق على فهم" الإنسان" وتهافته على الحياة،وهودور يجعلها أشبه بالكورس فى المسرح القديم الذي يظهر فى بعض المواضع معلقاً علىالأحداث أو أشبه بشخصية " المجذوب "فى بعض الأعمال السردية الحديثة التيتكشف عباراتها الرمزية طبيعة الأحداث ومستقبلها .
"الدكان" هو المكان الرئيسي فى هذه الرواية.المكان الذي يبدأ فيه " عبدو "البقال – لاحظ اقتراب الاسم من اسم الكاتبالحقيقي- عمله فى حركة البيع والشراء،هذا العمل الذي لا يخلص له كلية ولا يمارسهبكامل وعيه، فهو منشغل أساساً- بعمل أخر أو بهواية أخري هي " القراءة"وبهذا المعني يصبح "الدكان"اختصارا لحياة البقال فى مستواها الواقعيوالخيالى، فى واقعها المأزوم وخيالاتها وتوهماتها التي تحاول مغالبة هذا الواقعوإن كان-بحكم طبيعته- مكان انفتاح على الآخرين بنماذجهم المتنوعة،وهى حيلة روائية شبيهه باستقلال الأماكن المهيأة لاستقبال التنوعات البشرية الممثلة للشرائح الاجتماعيةبأنماط وعيها المتباينة فالمقاهي والفنادق والقطارات وغير ذلك مما أشتغله السرد فى مراحله المختلفة،إن كان هذا المكانالمفتوح أتاح للسارد استعراض العديد من النماذج الاجتماعية، حيث نجد أنفسنا أمامعدد كبير من القصص، وغالبا ما يكون وصف الشخصية هو المدخل معرفة قصتها وهكذا بمايمكن إن نسميه بالسرد (العنقودي) الذي تتنوع حكاياته لكنه يظل حاملا برؤية هذهالجماعة البشرية للحياة.
يأخذ (المكان) الرئيسي-أيضا- دلاله تتجاوز حركة البيع والشراء واستعراض النماذج الاجتماعية المترددة عليه حيث يوحي بطبيعة العلاقة التيتربط صاحبها ب(الزبون)(ما الذي يجعلنا طوال وقفتي فى الدكان اشعر وكأنني.خادم وضيعلسيد اسمه الزبون؟ ) (ص 12) وقد تفجر هذا السؤال الذي هو اقرب إلي الأسئلةالوجودية عندما قارن بين طريقته وطريقة تاجر بسيط يستشعر نفسه (سيدا) دون أن يلوكالكلام –مثلما يفعل السارد – عن الحرية والعدالة،(عبدو) شخص مثقف وكليم وأن يكونكاتباً كبيرا لكنه عاجز عن مواجهة الناس والحياة، وإذا ما أراد شيئاً تحايلا عليهوالتمس له أكثر الأساليب التواء، المكان- هنا وعلى غير المعتاد – ليس كناية عنصاحبة بل كاشفا له وللأخريين من خلال العلاقات اليومية المتكررة، علاقات تقوم علىاستغلال الأخريين لهذا(البقال) الحالم الغارق فى خيالاته، وهو ما يعد تمهيدا لماسوف يتعرض له من احباطات على مستوي الواقع الأدبي الثقافى وما فيه من فساد لا ينجحفيها إلا من يكون جزءا منه، وهو ما لا يستطيع (عبدو)- الذي يتناوب السرد من الساردالخارجي العليم – ان يفعله لأنه يؤمن ان الكتابة تمرد وكشف لقبح العالم، وهي كتابةيحلم بها دون أن يبلغها لأنه – كما يصف نفسه – بلا مميزات تجعله متمردا راديكاليا،و(الكتابة فى جوهرها وعظمتها فعل تمرد،فعل ارادة تقف ضد كل هذا العالم البشري)(133) العجز عن هذه الكتابة التي يحلم بها عجز مركب يعود فى أغليه إلى طبيعة(الذات) التي تضخم الرعب جعلها خائفة من فكرة المواجهة كما يعود – أيضا- إلى طبيعةالمكان – الدكان – الذي يقيده ويقعده – مرغما – داخله ويجعله أقرب إلى"البضاعة" التي يحويها، وهكذا يتحول ( المكان) إلى شخصية اعتبارية ذاتبعد سلطوي فى حين يتحول الإنسان إلى(شيء) إلى مجرد أله تدير الحركة داخله . إن كلما سبق يؤكد أننا أمام شخصية "إشكالية" لا تستطيع تغير واقعها ولاتستطيع "التكيف "معه، لا يستطيع تغيير قوانين البيع والشراء ولا يستطيعالخضوع لها إلا مرغما وعلى حساب طموحاته الحقيقية وهو ما يزداد اتضاحه على مستويالعام/مستوي الواقع الثقافى صانعا معادلة غير محلولة، معادلة مستحيلة لا تنفك إلابإلغاء احد طرفيها،"نطقت بوضوح لأول نسخته الشريرة وقالت: أنت تريد أن تحصلعلى مكاسب القوادين، وأنت لا تريد أن تقدم أي قرب لمستنقع الدعارة، وهذا لن يحدث",ولا يجد السارد الداخلي حلا لهذه الوضيعة سوى تكوين "أسرة" بديلةمقارنة لهذا العالم فنجد ترديدا لافتا لعدد من الروايات والكتاب مثل عبد الحكيمقاسم فى روايته " و"بتلك الرائحة " اصنع الله أبرهيم الرفضةلانتهاك كرامة الانسان، هذا الانتهاك الذي يقع السارد الداخلى تحت وطأته يوميا:ناولتها-أحد الزبائن- الطلبات وعدت لعالم صنع الله السوداوي المرير وحيث تحولت الحياة الرحبة إلى، سجن مفتوح تنتهك فيه كرامتي يوميا"(ص19)، الكتابة –إذا- بديل عنالواقع ومواجهته كاشفة لها لكن الأزمات تظل بسبب عجز هذا البقال البائس المحاصر عنالجمع بينها وبين واقعه المزري، هو واقع فى جبرية قهرية تجعله منشطرا بينهما وغيرقادر على الاستغناء عن احدهما.
تحمل الرواية وعيا نقديا يطل كل شيء:الذات، الآخرين،النخبة، الوسط الثقافى، ولنتأمل مثلا هذه اللغة الفاضحة" طبعا لا يوجد تفرغفى الحظيرة، ولا تقدر تشتغل مندوب أمن فى الفاعليات الثقافية، اخترت البقالة عشان تبقى حر، اشرب بقى، فين الحرية؟وتستنزف 24 ساعة فى اليوم، ومش تركيبتك زي مشاعرنصاب ومدلس وأخر النهار يقعد على القهوة ويقول :" الشعر ينظفني " (ص44)،وفى محاولته لتعرية الذات يستخدم حيلة"النسخة الأخرى " الشبيهه به شكلا والتي تمثل رغباته المكبوتة التي يعجز عن تحقيقها فى الواقع، هذه " النسخة الأخرى" الشريرة الكاشفةلأعماقه ولم يجد بدا للخلاص منها سوي قطع "رأسها" وغالبا ما تأتيه هذه
النسخة فى الحلم الذي سرعان ما يتحول إلى كابوس ,مشكلاما يشبها الايقاع السردي على مدار الروايةمن خلال تكراره اللافت المطرد , وفى سياق آلية الكشف يستحضر الكاتب نص"الليالي"ليفضح دموية السلطة وتواطؤ النخبة وخيانتهم فيما يعرف بإسقاطالماضي على الحاضر ,فقد كانت النخبة ومازالت لها دور كارثى فى صناعة الاستبدادوتزييف الوعي وتقبل الاستعباد باعتباره نوعا من الوطنية والدفاع عن الأرض المقدسةالتى هي الأولى بدفاع لان الإنسان زائل أما التراب الوطنى فهو الباقى (ص75) ولاشك أننا نستشعر سخرية مريرة ناتجة عن انقلاب الحقائق ,وهوما يضعنا أمام إحدى سمات الرواية وهى تعدد أساليبها التى تتراوح بين السرد التداولي بكناياته الشعبية والسرد الشاعري فى بعض توظيفات قيمة الحلم ,والسرد الغرائبى فى استدعاء أجواء ألفليلة وليلة, والتصوير المشهدى,والوضع الهزلي فى سياق الجاد ,وتوظيف الموال والأغنية الشعبية ,وهو ما يوازى تعدد الضمير المستخدم ما بين الغائب والمتكلم والمخاطب ,لقد غامر عبدالنبى فرج بطرح العديد من القصص التى تتوالد من بعضها فيما يقترب من السرد التشعبي لكنه استطاع برهافة ضبط إيقاع هذه الحكايات بفنية واضحة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق